
سقوط المعنى في زمن “المؤثرين”: حين تتفوق التفاهة على القيمة
هبة بريس – الشاهد صابر صحفي متدرب
في زمن لم يعد يَسْكنه المعنى، يُعاد تشكيل المشهد الرمزي والاجتماعي تحت سطوة “الضجيج الرقمي”، حيث صعدت فئة من المؤثرين على مواقع التواصل الاجتماعي لتتبوأ مكانة كانت، حتى وقت قريب، منوطة بأصحاب الفكر والمعرفة والكفاءة. لم يعد معيار الحضور في الواجهة مرتبطًا بما تقدمه من فائدة أو ما تحمله من رؤية، بل بما تملكه من قدرة على جذب الأنظار، و”كسب المتابعين” حتى لو كان المحتوى خواءً صاخبًا.
لقد تحوّلت مفردات مثل “المحتوى”، و”التأثير”، و”النجاح”، إلى شعارات جوفاء تُغلف مشاهد استعراض لا تنتهي، حيث تصبح التفاهة رأس مال رمزي يُتاجر به، ويُصنع منه نُجوم على حساب القيم والمعنى. هؤلاء “النجوم الجدد” يقتحمون الوعي الجماعي من خلال فيديوهات سطحية، وتحديات ساذجة، ومظاهر حياة مترفة غالبًا ما تكون مزيفة، لكنهم مع ذلك يُمنحون سلطة معنوية تتيح لهم توجيه الرأي العام، بل و”الافتاء” في القضايا الكبرى، دون أن يمتلكوا الأدوات المعرفية أو الأخلاقية لذلك.
هذه الظاهرة ليست مجرد انزلاق أخلاقي عابر، بل هي انعكاس عميق لأزمة رمزية: لقد أصبح المجتمع يكرّم الواجهة لا الجوهر، ويحتفي بالاستعراض لا الفكرة. في ظل هذا السياق، لم يعد للمثقف الجاد، أو المعلم المخلص، أو العالم المتفاني، نفس الحظوة أو الصوت، بل صار في الهامش، يتأمل بحسرة انهيار المعايير، وتحوّل الحضور الرقمي إلى معادل رمزي للشرعية.
التساؤل الجوهري الذي يطرح نفسه هنا هو: كيف فقد المجتمع قدرته على التمييز؟ كيف أصبحت عبارات مثل “التأثير”، و”الترند”، و”التفاعل”، أدوات لشرعنة محتوى فارغ لا ينتج فكرًا ولا يُسهم في وعي؟ وهل يمكن الحديث عن صحوة ممكنة، في زمن تُصنع فيه النماذج من فيديوهات تافهة لا تتجاوز الدقيقة، لكنها تُحدث أثرًا أعمق من كتابٍ أو محاضرة أو عملٍ ثقافي؟
لا يتعلق الأمر بلوم الأفراد فقط، بل بفهم البنية التي صنعت هذا التحول. إنها منظومة كاملة تسوّق التفاهة، وتمنحها أدوات الانتشار والربح، وتدفع بالشباب نحو تقليد النموذج السهل: أن تصبح مشهورًا بلا عناء، غنيًا بلا مضمون، وأن يُنظر إليك كـ”قدوة” لمجرد أنك تتقن لعبة الخوارزميات.
وفي المقابل، يغيب دور المدرسة في بناء ذائقة نقدية، ويتراجع الإعلام العمومي أمام زحف محتوى بلا ضوابط، وتُهمّش الجامعة ومراكز البحث، ويُترك الوعي العام رهينة لتوجهات السوق ومزاج “الترند”.
لكن هل من مخرج؟
نعم، يبدأ من وجهة نظري بإعادة الاعتبار لقيمة الفكرة، لمكانة الكتاب، لصوت العقل، لرمزية القدوة الصادقة. ليس المطلوب محاربة الفضاء الرقمي، بل استثماره في اتجاهات تنويرية، وتكوين جيل يملك من الحس النقدي ما يجعله يفرّق بين المؤثر الحقيقي، وصانع الضجيج. المطلوب ليس الصراخ ضد التفاهة، بل بناء بدائل قادرة على الجذب والمقاومة في آن.
المثقف، اليوم، ليس من يكتب في عزلة، بل من ينخرط في معركة الرموز، ويخوض معركة المعنى في وسط هذا الضجيج. نعم، قد يبدو الصوت خافتًا أمام هتاف الفارغين، لكن الوعي حين يبدأ في التشكل، لا يحتاج إلى ضجيج، بل إلى صبر، وعمق، ومثابرة.
تابعوا آخر الأخبار من هبة بريس على WhatsApp
تابعوا آخر الأخبار من هبة بريس على Telegram
تابعوا آخر الأخبار من هبة بريس على X